عمار الزبن- روائي قسامي من السجون إلى روايات البطولة و الزمرة

المؤلف: د. سليمان صالح11.11.2025
عمار الزبن- روائي قسامي من السجون إلى روايات البطولة و الزمرة

عمار الزبن، مبدع روائي آخر أفرزته معتقلات الاحتلال الإسرائيلي وصمود المقاومة الباسلة. بعد أن صمت هدير سلاحه، أطلق العنان لقلمه، مبدعًا من داخل أسواره روايات تستلهم وقائع حقيقية، وتنقلنا ببراعة إلى لحظات أبطالها في ساحات المواجهة وفي غياهب الأسر. والجدير بالذكر أن الزبن نفسه كان بطلًا في بعض تلك الحكايات.

يمتلك الزبن أسلوبًا فريدًا يأسر الألباب، فهو يأخذك معه في رحلة مع الأحداث، تشعر وكأنك تعيشها بتفاصيلها الدقيقة، وتتخيل نفسك جزءًا من عالم أبطال أعماله، لتطلق العنان لمخيلتك كي تحلق في أزقة القدس العتيقة، وجبال نابلس الشامخة، وقرى فلسطين الحبيبة. تتأمل المشاهد، وتفكر في حلول لتلك المعضلات، وتعيش بكل جوارحك مشاعر الصمود والعزة والإباء.

الأمر الذي يثير الدهشة والإعجاب، هو أن الزبن أسير قسامي قضى في سجون الاحتلال أغلب حياته. ففي عام 1994، وهو في ريعان شبابه، وتحديدًا في سن السادسة عشرة، ذاق مرارة السجن، حيث حُكم عليه بالسجن لمدة عامين ونصف. وبعد إطلاق سراحه، أسس خلية "شهداء من أجل الأسرى"، التي نفذت عمليات جريئة لأسر جنود إسرائيليين، سعيًا لتبادلهم بأسرى فلسطينيين يقبعون في زنازين الاحتلال.

لم يطل به المقام خارج السجن، ففي عام 1997، اعتقل مرة أخرى، وأصدرت المحاكم الإسرائيلية بحقه أحكامًا قاسية بالسجن المؤبد 27 مرة، أي ما يعادل 2700 سنة، بتهمة المسؤولية عن سلسلة عمليات فدائية أدت إلى مقتل 27 جنديًا إسرائيليًا وإصابة 323 آخرين. وبذلك، أصبح الزبن من بين أصحاب أعلى الأحكام في السجون الإسرائيلية، واعتبرت الصحف الإسرائيلية اعتقاله نصرًا مدويًا لأجهزتها الأمنية.

رأيناهم في النفق بشرًا يتبادلون الحكايات والذكريات، ورأيناهم ملائكة تعلقت أرواحهم وقلوبهم بخالقهم الواحد الأحد، وأخيرًا، وبعد طول انتظار وترقب، حانت اللحظة الموعودة بعدما تجمهر عدد كبير من جنود الاحتلال فوق أنقاض منزل عماد، فهمس لهم علاء بصوت خفيض: استعدوا وتوكلوا على الله.

لكن الزبن، بكل شموخ وإباء، استقبل الحكم بابتسامة ساخرة، ورفع بيمناه مصحفه الشريف، وبالأخرى علامة النصر، ومضى إلى زنزانته المظلمة مرفوع الرأس، ثابت الجنان.

وهكذا، فإن الزبن، الذي تجاوز الآن الخامسة والأربعين من عمره، لم يعش خارج أسوار السجن سوى 17 عامًا تقريبًا. وخلال فترة أسره، لم يستسلم لليأس، بل سعى إلى تطوير نفسه بالعلم والمعرفة، فحصل على شهادة الثانوية العامة، ثم شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية، ثم درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة القدس المفتوحة، ثم بدأ بعدها التسجيل في برنامج الدكتوراه.

في اعتقاله الثاني، تعرض الزبن لتعذيب وحشي استمر قرابة ثلاثة أشهر خلال التحقيق معه في سجن المسكوبية سيئ السمعة، كما منعوه من زيارة عائلته لمدة ثماني سنوات متواصلة، حتى استشهدت والدته أثناء مشاركتها في إضراب عن الطعام؛ تضامنًا مع الأسرى في أغسطس/آب 2004، ثم لحق بها والده بعدها بفترة وجيزة، وعندها فقط سمحوا لزوجته وابنتيه بشائر وبيسان بزيارته في عام 2005.

عندما يكتب المقاتل

يقول عمار الزبن: إن أصعب أنواع الكتابة الأدبية هي تلك التي يكتب فيها المرء عن تجربة عاشها بكل تفاصيلها، وأن يكتب عما كان جزءًا منه، وهذا ما جعله يؤجل مشروع الكتابة ما يقارب العشرين عامًا. ولكنه عندما تحدث أخيرًا، كان كلامه جديرًا بالإصغاء.

لقد منحت التجربة القاسية والمحنة العظيمة الزبن تلك الصفة الثمينة التي يسميها النقاد: "الأصالة". وقد نجحت أعماله التي قدمها في "أنسنة الحدث"، فلم يعد المقاوم مجرد رقم في نشرة الأخبار، أو اسمًا عابرًا في بيان عسكري، بل أصبح إنسانًا له هوية واضحة ومشاعر جياشة. فنحن في هذه الروايات نعيش حياته بكل تفاصيلها، ونشاركه آماله وطموحاته، وإحباطاته ولحظات ضعفه وقوته، ونصره أو استشهاده.

لقد أبدع الزبن ست روايات حتى الآن، وكلها مستوحاة من أحداث حقيقية، وهي "عندما يزهر البرتقال" و"خلف الخطوط" و"ثورة عيبال" و"أنجليكا" و"الزمرة" و"الطريق إلى شارع يافا".

مع "الزمرة"

سنتوقف هنا قليلًا عند رواية "الزمرة"، وربما نتناول أعمالًا أخرى في مقالات لاحقة. كتب الزبن هذه الرواية في سجن رامون الصهيوني، مستندًا إلى تفاصيل دقيقة حصل عليها من اثنين من أبطالها بعد أسرهما. تدور أحداث الرواية خلال العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة عام 2014، وتلقي الضوء على الحياة الإنسانية لهؤلاء الأبطال. وكعادة الزبن، فإن العمل بكل ما فيه من أسماء وتواريخ وأماكن وأحداث، حقيقي وموثق من الألف إلى الياء، وقد أهدى روايته إلى رجال نخبة القسام في غزة "تحت الأرض وفوقها وفي لجج بحرها".

عندما تنغمس في قراءة الرواية، تنتقل إلى زمن غزة التي كانت يومًا مدينة نابضة بالحياة تعج بالبيوت والذكريات، وذلك قبل أن تدمرها آلة الحرب الصهيونية في حرب الإبادة الأخيرة، والتي لم تترك فيها حجرًا على حجر.

تبدأ الأحداث في حي الأمل بخان يونس، حيث يقيم البطل الأول إبراهيم. تتهاوى الصواريخ على هذا الحي كوابل السماء، فتدمر الذكريات، وتحرق خارطة الوطن المغتصب المعلقة على جدار بيت "أم خالد" (والدته)، وهذا ليس إلا استمرارًا لمسلسل المعاناة الذي عاشته الأم منذ زمن النكبة، عندما طردتها العصابات الصهيونية من بئر السبع، ولا تزال الأم تنتظر العودة إلى بيتها الذي تحتفظ بمفتاحه.

أما زوجة إبراهيم، فهي تجسيد للمرأة الفلسطينية الصابرة المحتسبة، التي تتوقع أن يخرج زوجها لمقاومة الاحتلال الغاشم ولا يعود، لكنها تحاول جاهدة أن تقنع نفسها "أن الله عز وجل سيبقي لها هذا الرجل الطيب والحبيب الرائع، فليس من العدل أن تموت القصص الجميلة في غزة، وليس من القدر المحتوم أن ينتصر الغزاة علينا، ولا بد أن يقاوم إيماننا باطلهم، حتى تنتصر الحياة ويبقى الحب. وأنا أكره أن يغيب عني زوجي، رغم علمي أن الخير في صد المحتلين عنا وعن أرضنا".

الغزّي.. الشهيد الحي

وتسلط الرواية الضوء على علاقة الغزيين بالكهرباء، فهي هناك "رفاهية لا يستحقها اللاجئون والكادحون والحالمون. وعليك إن كنت غزيًا أن تكره الكهرباء، حتى لا تتعود على ساعات توفرها القليلة؛ فكل عامين هناك حرب، وأول ضحاياها محطة الكهرباء المتهالكة".

أطلقت الطائرة الإسرائيلية صاروخًا فدمر منزل ياسر (وهو البطل الثاني) في المخيم، وأباد أسرته، واشتعل قلبه حزنًا على فراق والدته الشهيدة، تمامًا كما تحترق قلوب أهل غزة كل يوم على فراق أحبائهم، لكن هناك حقيقة راسخة أدركها الجميع، وهي: "أن تكون غزيًا، فأنت شهيد مع وقف التنفيذ حتى يحين دورك في إحدى الحروب المتواصلة، أو سنوات الحصار الممتدة، أو عبر صاروخ ذكي بذريعة أنك قنبلة موقوتة. لذلك لا تصف الغزي عندما يرحل بالميت؛ فمكتوب على جبينه منذ مولده: أنا من غزة إذن أنا شهيد!".

أما علاء (البطل الثالث) فقد قال لوالدته: "أنتما في عيني يا أمي، لكنك تعلمين أنني اخترت طريقًا نهايته أحد أمرين: إما أن أنال الشهادة في ساحة الوغى، وإما أن أمسك بيدكِ الكريمة، وأطير بك إلى قريتنا الرائعة في اللد بعد تحريرها من الصهاينة، وما ذلك على الله بعزيز".

في حب فلسطين، وأمي، وأمل!

أما البطل الرابع أحمد (الملقب بسمارة)، فهو عاشق يسكب لمحبوبته أرق الكلمات التي ينتقيها من أعماق قلبه. ففي غزة، للعشق نكهة خاصة، وعندما تزور خطيبته (أمل) بيتهم، تصله رسالة الاستدعاء، فيضطر آسفًا لتركها. ليجد علاء وإبراهيم ومحمد في انتظاره، وينضم إليهم عماد، فتتشكل الزمرة (المجموعة) التي تم تكليفها بمهمة خاصة.

تتوقف الرواية عند أحلام شخصياتها، فأمل كانت ترسم في خيالها صورة فارس أحلامها، فتقول: "أريده مجاهدًا يحمل بين جوانحه حب الشهادة، والذود عن أرضه، فالذي لا يفعل ذلك أخافه على نفسي وعلى أولادي".

أما أحمد (سمارة)، فيقول: إن "فلسطين، وأمي، وأمل، والبندقية، لا تفارقنني أبدًا، ولا يمكنني الفصل بينهن، فمن تخلى عن إحداهن فسوف يفقد الأخريات"، ويواصل متحدثًا عن رؤيته للحب: "حتى نعمر وطننا يجب أن يكون خاليًا من الشرور، وحتى نصل إلى ذلك، يجب أن تتوفر لدينا أسباب القوة، وأهمها الأسرة الصالحة التي تبدأ مني ومن خطيبتي المؤمنة، التي تدفعني للقتال من أجلها ومن أجل وطني وديني وأمي".

وتكمل زوجة إبراهيم الصورة: "إن المقاتلين وحدهم هم العشاق الحقيقيون، وغيرهم مجرد عابرين في دروب العشق، لأن الحب الذي تحميه البندقية، ويمتزج بعرق الثورة، هو الحب الذي يستحق الخلود".

مع الرجال الخمسة في النفق

لكل بطل في الرواية حكايته الخاصة، لكن ما يوحدهم هو أنهم "رهبان الليل، وفرسان النهار" الذين يقفون على أرضية أخلاقية صلبة وإيمان لا يلين.

وتبرز الرواية المراحل التربوية المتصاعدة التي يمر بها المقاتل قبل أن يصبح من "نخبة القسام"، وما تتضمنه من جوانب إيمانية وعقائدية وثقافية، ليصبح مجاهدًا ملتزمًا تجاه دينه وشعبه وأمته. ولا يتم اختياره في صفوف القسام إلا بعد التأكد من حسن خلقه مع أهله والناس، واستعداده للتضحية بكل ما يملك من أجل وطنه المسلوب.

تم تكليف الرجال الخمسة بعملية استشهادية، فتجمعوا في نفق أسفل منزل عماد الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية. وهناك عاشوا وعشنا معهم أسبوعين كاملين في النفق، يترقبون اللحظة الحاسمة، ولا يقتاتون إلا على تمرات قليلة وشربة ماء، ولا ينعمون حتى بنسيم هواء عليل.

رأيناهم في النفق بشرًا يتبادلون القصص والنوادر، ورأيناهم ملائكة تعلقت أرواحهم وقلوبهم بالله الواحد القهار. وأخيرًا، وبعد طول انتظار وصبر، حانت اللحظة المنتظرة بعدما احتشد عدد كبير من جنود الاحتلال فوق ركام منزل عماد، فهمس إليهم علاء: استعدوا وتوكلوا على الله.

نهاية أم بداية؟

فجّرت (الزمرة) العبوة الناسفة في فتحة النفق، فأحدثت انفجارًا هائلًا مزق أجساد عدد كبير من جنود الاحتلال. وقبل أن يستفيق بقية الجنود من هول الصدمة، انقضت نخبة القسام من الفتحة الثانية للنفق، لتواجههم من "المسافة صفر"، وتوقع بهم خسائر فادحة. وكان عنصر المفاجأة سببًا رئيسيًا في نجاحهم وإرباك العدو.

لكن المعركة، رغم ذلك، استمرت لساعات طويلة حتى بدأت ذخيرة المقاتلين تنفد. وكان أحمد (سمارة) أول الشهداء. وعندما تفجرت الدماء من جسده الطاهر، نادى حبيبته (أمل) قائلًا: "هاكِ دمي. ما كنت لأبخل به على وطن أنتِ أجمل ما فيه، والملتقى الجنة".

استشهد أحمد وهو يحتضن سلاحه، وقد اخترق جسده وابل من الرصاص، فكتم شعوره بالألم، وآثر أن يرحل شامخًا بهدوء الأشجار، وعيناه تحرسان ظهر الوطن.

وكان علاء هو الشهيد الثاني، نزفت دماؤه الزكية وهو يطلق العنان لتكبيراته المدوية، فقد وفى بقسمه: أنهم لن يمروا إلا على جثته.

أما عماد فقد كان سيد الموقف، حيث تمكن ببراعة من استدراج العدو إلى كمين محكم، واستخدم القنابل اليدوية لإلحاق أكبر الخسائر بهم، ثم اخترقت رصاصة وجهه الباسم ليروي بدمه أشجار الزيتون المباركة.

استشهد ثلاثة أبطال، وبقي من الزمرة إبراهيم ومحمد يقاتلان ببسالة جنود العدو من داخل النفق، حتى نفدت ذخيرتهما، فألقى جندي إسرائيلي قنبلة دخان داخل النفق، فاضطرا للخروج، فأسروهما، وأخضعا لتحقيق قاسٍ في سجن عسقلان. ولم تعلم "كتائب القسام" أنهما ما زالا على قيد الحياة إلا بعد ظهورهما في أحد السجون الإسرائيلية.

كانت تلك صورة مصغرة عن معركة بطولية، كما رواها إبراهيم ومحمد للأديب القدير عمار الزبن، الذي شعر بنشوة النصر تتغلب على قيود السجن، وهو يخط السطر الأخير من الرواية.

على مدار الأشهر الستة الأخيرة، وعلى مدار السنوات التي سبقتها، هناك آلاف الحكايات المشابهة لحكاية هذه الزمرة، لشباب يعشقون الحياة ويفدون الوطن بأرواحهم، وقلوبهم تنبض بالحب، لكنهم يعشقون الكرامة والحرية أكثر، وهم على استعداد دائم للتضحية بأغلى ما يملكون في سبيل ما يؤمنون به. وحكايات هؤلاء الأبطال جميعًا تنتظر من يدوّنها ويخلدها في سجل التاريخ.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة